فصل: (سورة العنكبوت آية 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة العنكبوت الآيات 14- 15]:

{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون (14) فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين (15)}.
كان عمر نوح عليه السلام ألفا وخمسين سنة، بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب: أنه عاش ألفا وأربعمائة سنة. فإن قلت: هلا قيل تسعمائة وخمسين سنة؟ قلت: ما أورده الله أحكم. لأنه لو قيل كما قلت، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل: تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد، إلا أن ذلك أخصر وأعذب لفظا وأملأ بالفائدة، وفيه نكتة أخرى: وهي أن القصة مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدة صبره. فإن قلت: فلم جاء المميز أولا بالسنة وثانيا بالعام؟ قلت: لأن تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك. والطوفان ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة، من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما. قال العجاج:
وغم طوفان الظلام الأثأبا

أصحاب السفينة كانوا ثمانية وسبعين نفسا: نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، منهم أولاد نوح عليه السلام: سام، وحام، ويافث، ونساؤهم. وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة. خمسة رجال وخمس نسوة. وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم: «كانوا ثمانية: نوح وأهله وبنوه الثلاثة» والضمير في وجعلناها للسفينة أو للحادثة والقصة.

.[سورة العنكبوت الآيات 16- 18]:

{وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين (18)}.
نصب إبراهيم بإضمار اذكر، وأبدل عنه إذ بدل الاشتمال، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها. أو هو معطوف على نوحا وإذ ظرف لأرسلنا، يعنى: أرسلناه حين بلغ من السن والعلم مبلغا صلح فيه لأن يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى.
وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رحمهما الله. وإبراهيم، بالرفع على معنى: ومن المرسلين إبراهيم إن كنتم تعلمون يعنى: إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم. أو إن نظرتم بعين الدراية المبصرة دون عين الجهل العمياء: علمتم أنه خير لكم: وقرئ: {تخلقون} من خلق بمعنى التكثير في خلق. و{تخلقون} من تخلق بمعنى تكذب وتخرص. وقرئ: {إفكا} فيه وجهان: أن يكون مصدرا، نحو: كذب ولعب. والإفك: مخفف منه، كالكذب واللعب من أصلهما، وأن يكون صفة على فعل، أي خلقا إفكا، أي ذا إفك وباطل. واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله أو شفعاء إليه. أو سمى الأصنام: إفكا، وعملهم لها ونحتهم: خلقا للإفك. فإن قلت: لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت: لأنه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق، فابتغوا عند الله الرزق كله. فإنه هو الرزاق وحده لا يرزق غيره إليه ترجعون وقرئ: بفتح التاء، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، وإن تكذبونني فلا تضروننى بتكذيبكم، فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، وما ضروهم وإنما ضروا أنفسهم، حيث حل بهم ما حل بسبب تكذيب الرسل: وأما الرسول فقد تم أمره حين بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشك، وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته. أو: وإن كنت مكذبا فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة وسلوة حيث كذبوا، وعلى الرسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب، وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله: {فما كان جواب قومه} محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات الله عليه لقومه، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش بين أول قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت: إذا كانت من قول إبراهيم فما المراد بالأمم قبله؟ قلت: قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وكفى بقوم نوح أمة في معنى أمم جمة مكذبة، ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء. وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه، وأعقابهم على التكذيب.

.[سورة العنكبوت الآيات 19- 22]:

{أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (20) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون (21) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (22)}.
فإن قلت: فما تصنع بقوله: {قل سيروا في الأرض}؟ قلت: هي حكاية كلام حكاه إبراهيم عليه السلام لقومه، كما يحكى رسولنا صلى الله عليه وسلم كلام الله على هذا المنهاج في أكثر القرآن فإن قلت: فإذا كانت خطابا لقريش فما وجه توسطهما بين طرفى قصة إبراهيم والجملة؟ أو الجمل الاعتراضية لابد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه؟ ألا تراك لا تقول: مكة- وزيد أبوه قائم- خير بلاد الله؟ قلت: إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون مسلاة له ومتفرجا بأن أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوا بنحو ما مني به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله: وإن تكذبوا، على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمدا فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها، لأن قوله: {فقد كذب أمم من قبلكم} لابد من تناوله لأمة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض واقع متصل، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها، لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله، وهدم الشرك وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله وسلطانه، ووضوح حجته وبرهانه. قرئ يروا بالياء والتاء. ويبدئ ويبدأ. وقوله: {ثم يعيده} ليس بمعطوف على {يبدئ} وليست الرؤية واقعة عليه، وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت، كما وقع النظر في قوله تعالى: فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة على البدء دون الإنشاء، ونحوه قولك: ما زلت أوثر فلانا وأستخلفه على من أخلفه. فإن قلت: هو معطوف بحرف العطف، فلابد له من معطوف عليه، فما هو؟ قلت: هو جملة قوله: {أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق} وكذلك: وأستخلفه، معطوف على جملة قوله: ما زلت أوثر فلانا ذلك يرجع إلى ما يرجع إليه هو في قوله: {وهو أهون عليه} من معنى يعيد.
دل بقوله: {النشأة الآخرة} على أنهما نشأتان، وأن كل واحدة منهما إنشاء، أي: ابتداء واختراع، وإخراج من العدم إلى الوجود، لا تفاوت بينهما إلا أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله، والأولى ليست كذلك. وقرئ: النشأة والنشاءة، كالرأفة والرآفة. فإن قلت: ما معنى الإفصاح باسمه مع إيقاعه مبتدأ في قوله: {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} بعد إضماره في قوله: كيف بدأ الخلق؟
وكان القياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟ قلت: الكلام معهم كان واقعا في الإعادة، وفيها كانت تصطك الركب، فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة، فكأنه قال: ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ يعذب من يشاء تعذيبه ويرحم من يشاء رحمته، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا، ومن المعصوم والتائب تقلبون تردون وترجعون وما أنتم بمعجزين ربكم أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه في الأرض الفسيحة ولا في السماء التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها، كقوله تعالى: {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا} وقيل: ولا من في السماء كما قال حسان رضي الله عنه:
أمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء

ويحتمل أن يراد: لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء، كقوله تعالى: {ولو كنتم في بروج مشيدة} أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجرى عليكم، فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء.

.[سورة العنكبوت آية 23]:

{والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم (23)}.
بآيات الله بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته ولقائه والبعث يئسوا من رحمتي وعيد، أي ييأسون يوم القيامة، كقوله: {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} أو هو وصف لحالهم، لأن المؤمن إنما يكون راجيا خاشيا، فأما الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف أو شبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من الرحمة: وعن قتادة رضي الله عنه. إن الله ذم قوما هانوا عليه فقال: {أولئك يئسوا من رحمتي} وقال: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته، وأن لا يأمن عذابه وعقابه صفة المؤمن أن يكون راجيا لله عز وجل خائفا.

.[سورة العنكبوت آية 24]:

{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (24)}.
قرئ: {جواب قومه} بالنصب والرفع قالوا قال بعضهم لبعض. أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين، فكانوا جميعا في حكم القائلين. وروى أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار، نعنى: يوم ألقى إبراهيم في النار، وذلك لذهاب حرها.

.[سورة العنكبوت آية 25]:

{وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (25)}.
قرئ على النصب بغير إضافة وبإضافة، وعلى الرفع كذلك، فالنصب على وجهين: على التعليل، أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم، كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم. وأن يكون مفعولا ثانيا، كقوله: {اتخذ إلهه هواه} أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم، على تقدير حذف المضاف.
أو اتخذتموها مودة بينكم، بمعنى مودودة بينكم، كقوله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وفي الرفع وجهان: أن يكون خبرا لأن، على أن ما موصولة.
وأن يكون خبر مبتدإ محذوف. والمعنى: أن الأوثان مودة بينكم، أي: مودودة، أو سبب مودة. وعن عاصم: مودة بينكم: بفتح بينكم مع الإضافة، كما قرئ: {لقد تقطع بينكم} ففتح وهو فاعل. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: {أوثانا إنما مودة بينكم في الحياة الدنيا} أي: إنما تتوادون عليها، أو تودونها في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يقوم بينكم التلاعن والتباغض والتعادي: يتلاعن العبدة، ويتلاعن العبدة والأصنام، كقوله تعالى ويكونون عليهم ضدا.

.[سورة العنكبوت آية 26]:

{فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم (26)}.
كان لوط ابن أخت إبراهيم عليهما السلام، وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه وقال يعني إبراهيم إني مهاجر من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين، ومن ثمة قالوا: لكل نبى هجرة ولإبراهيم هجرتان، وكان معه في هجرته: لوط، وامرأته سارة، وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة إلى ربي إلى حيث أمرنى بالهجرة إليه إنه هو العزيز الذي يمنعني من أعدائى الحكيم الذي لا يأمرنى إلا بما هو مصلحتي.

.[سورة العنكبوت آية 27]:

{ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (27)}.
أجره الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر والذرية الطيبة والنبوة، وأن أهل الملل كلهم يتولونه. فإن قلت: ما بال إسماعيل عليه السلام لم يذكر، وذكر إسحاق وعقبه؟
قلت: قد دل عليه في قوله: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} وكفى الدليل لشهرة أمره وعلو قدره. فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: قصد به جنس الكتاب، حتى دخل تحته ما نزل على ذريته من الكتب الأربعة: التي هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن؟. اهـ.